نيوم- نبتة نادرة تُلهم قيادة عظيمة ورؤية مستدامة
المؤلف: فراس ابراهيم طرابلسي10.01.2025

في هذا العالم المزدحم بالقرارات الصعبة والاستراتيجيات المعقدة، يقف القادة العظام على مفترق طرق حاسم، مميزين بين الأمور الجليلة وتلك التي تبدو يسيرة، بين ما يتطلب احتسابات دقيقة وما يتدفق من إحساس إنساني نبيل. هنا، تتجلى القيمة الحقيقية للقيادة، ليس فقط في صياغة الاستراتيجيات والخطط المحكمة، بل في ملامسة ثنايا الحياة اليومية، تلك التفاصيل الدقيقة التي تعكس جوهر الشخصية ونقاء الرؤية.
حينما يصدر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان توجيهًا ساميًا بتغيير موقع مشروع سياحي ضخم في نيوم، وذلك بهدف صون نبتة نادرة فريدة، فهو لا يتخذ مجرد قرار إداري عابر وخالٍ من المعنى، بل يؤسس لمبدأ راسخ، ويرشد إلى أسلوب ومنهج فريد في الحكم قلّ من يتبعه ويسير على هديه. إنه ينظر إلى الأمور بعين المهندس المعماري والمخطط الاستراتيجي، ولكن أيضًا بقلب الإنسان المرهف الذي يرى في رمزية نبتة متناهية الصغر جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وتعبيرًا صادقًا عن الانسجام والتوازن الأمثل بين التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة الغناء.
الكثيرون هم أولئك القادة الذين يضعون استراتيجيات عظيمة ومحكمة، ولكن القلة النادرة هم الذين يلتفتون إلى تلك التفاصيل الصغيرة التي تعكس عمق رؤيتهم الثاقبة. فالحفاظ على نبتة صغيرة قد يُنظر إليه على أنه أمر يسير وبسيط، ولكنه في جوهره يحمل رسالة قوية مفادها أن التنمية الشاملة لا تعني الإقصاء والتهميش، وأن التقدم والازدهار لا يعنيان الإلغاء والطمس، وأن للأرض ذاكرة عميقة لا ينبغي محوها وتجاهلها لمجرد إقامة مشروع جديد. بل إن أعظم القرارات وأكثرها تأثيرًا قد تتجسد أحيانًا في حماية رمز صغير، لأن الفكر الذي يعتني بأدق التفاصيل هو ذاته الفكر القادر على إحداث تحولات جوهرية وتغييرات جذرية.
وهذا النهج ليس وليد اللحظة أو جديدًا على مسيرة القيادة السعودية الرشيدة، فمنذ أن أرسى الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- دعائم وأركان المملكة العربية السعودية، كان يدرك تمام الإدراك أن بناء الدولة القوية لا يقتصر فقط على اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، بل يكمن أيضًا في العناية الفائقة بكل تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، وفي حماية كل ما هو أصيل وعريق، وفي إيجاد توازن دقيق بين التحديث والتطوير والحفاظ على الهوية الوطنية الأصيلة. لم يكن تركيزه -رحمه الله- قاصرًا فقط على توسيع المدن وتشييد البنى التحتية، أو على إرساء الأمن وتوطيد الاستقرار، أو على تطوير الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل، بل كان ينظر أيضًا بعين فاحصة إلى المياه التي يشربها الناس، والطرقات التي يسلكونها، والأراضي التي يزرعونها، والمراعي التي تحمي مصدر رزق أهلها.
قادة لم يغفلوا عن التفاصيل الدقيقة
وهذه الفلسفة الحكيمة لم تقتصر على عصر دون آخر، فقد كان الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مثالًا حيًا للقائد الذي لا يغفل عن التفاصيل الصغيرة، حيث قال كلمته المأثورة: «لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها، لمَ لمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟». هذه النظرة الثاقبة تعبّر بجلاء عن وعيه العميق بأن العدالة الحقيقية ليست فقط في الأحكام الكبرى والقضايا المصيرية، بل تمتد لتشمل حتى المخلوقات التي لا تنطق، مثل بغلة تمشي على طريق وعر وغير ممهد.
وكذلك كان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، الذي لم ينشغل فقط بالمعارك الكبرى والفتوحات العظيمة، بل اهتم بالبيئة والصحة العامة للمواطنين، فأمر بغرس الأشجار لحماية المدن من العوامل الطبيعية، وإنشاء المستشفيات لعلاج المرضى والمحتاجين، والعناية بالحيوانات الضالة والضعيفة، إدراكًا منه أن النهضة الشاملة لا تُبنى بالسيف والقوة وحدهما، بل أيضًا بالرحمة والرعاية والإحسان.
أما نابليون بونابرت، فقد أدرك بفطنته أن القرارات الصغيرة قد تُحدث تغييرًا جذريًا في مجرى التاريخ، فكان مهووسًا بالتفاصيل الدقيقة، حتى أنه لاحظ معاناة جنوده من فساد الطعام أثناء الحملات العسكرية الطويلة، فأطلق مسابقة كبرى لاختراع وسيلة فعالة لحفظ الأطعمة لفترات طويلة، مما أدى في نهاية المطاف إلى ظهور التعليب، وهي فكرة مبتكرة أحدثت ثورة هائلة في مجال التموين العسكري والمدني على حد سواء.
رؤية ولي العهد: حيث تلتقي التفاصيل الكبرى والصغرى
اليوم، يأتي ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- ليواصل هذا النهج القويم برؤية متجددة وطموحة، تؤمن إيمانًا راسخًا بأن القائد الحقيقي هو من يرى التفاصيل الدقيقة بقدر ما يرى الصورة الكبرى. قرار حماية «نبتة نيوم» قد يبدو في ظاهره تفصيلة صغيرة، ولكنه يعكس فلسفة حكم شاملة ومتكاملة، تؤكد أن التنمية المستدامة لا تأتي على حساب الطبيعة الخلابة، وأن الحفاظ على الرموز البيئية الفريدة هو جزء لا يتجزأ من الحفاظ على الهوية الوطنية العريقة.
وهكذا، يثبت ولي العهد -أيده الله- أن العناية بالتفاصيل ليست ترفًا أو نوعًا من الكماليات، بل هي بُعد آخر من أبعاد القيادة الحكيمة والرشيدة، حيث تتساوى قيمة الإنسان والطبيعة في معادلة البناء والتطوير والازدهار. وهذا ما يميز القائد الملهم الذي لا يرى الأمور بعيون الأرقام والإحصائيات وحدها، بل يقرأ التاريخ العريق في نبتة صغيرة، ويرى المستقبل المشرق في جذورها الممتدة في أرض الوطن الغالي.